كيف تحصلين على عمل كـ “مغسلة موتى” في النجف؟

كيف تحصلين على عمل كـ “مغسلة موتى” في النجف؟

نورس العادلي / النجف الاشرف

إذا كنتِ تتمتعين بصحة جيدة، وسيرة وسلوك حسنين، وتنتمين إلى عائلة ذات سمعة طيبة، ولديكِ إلمام كافٍ بالشريعة الإسلامية، وترغبين في التفرغ للتطوع بوقتٍ طويل، فأنتِ مؤهلة للعمل كواحدة من النساء اللواتي يتكفلن بعملية غسل الموتى في أحد مراكز النجف الأشرف.

ما سبق هو مجموعة من الشروط التي تضعها الجهات المسؤولة عن المغاسل في المدينة، وهي لا تقبل بأي شخص أقل من هذه الشروط للقيام بهذا العمل التطوعي الديني والاجتماعي، الذي ترفضه الكثير من النساء لأسباب اجتماعية عديدة.

أم حيدر هي واحدة من السيدات المتطوعات لهذا العمل. التقينا بها أثناء فترة مناوبتها في مغسل السيد الشهيد الصدر “قدس سره”، حيث يمكنك سماع صوت الماء المتدفق، ورائحة السدر والكافور، وصوت أنين بكاء ذوي المتوفين، الذي يصل أحيانًا إلى حد الصراخ. هذه هي البيئة المحيطة بعمل أم حيدر.

مغتسل السيد الشهيد الصدر “قدس سره” هو مغتسل مجاني يرتاده آلاف الناس شهريًا في النجف الأشرف. وقد امتهنت أم حيدر هذا العمل التطوعي “للكسب الأجر والثواب”، وترى أن وجودها هنا “تقرب من الله وتشذيب للنفس”. ولكن لهذه المهنة ضريبة، تقول أم حيدر: “لا تبدأ بـ تعامل الناس واظهارهم للتقزز لأنني أعمل مع الجثث”، ووصل الأمر إلى اتهامها من البعض بأنها قريبة من عوالم الجن والسحر والشعوذة.

الحاجة أم حسين، سيدة أخرى تعمل في تغسيل الموتى، وقد توارثت هذه المهمة عن والدتها. تقول إن غايتها هي “مساعدة الناس في محنة الفقد”. هي، كما أم حيدر، تواجه نفس التحديات المجتمعية بسبب عملها، ومن أبرزها معاملتها بدونية من البعض. لكنها أيضًا قد واجهت طلبات غريبة كونها تعمل في غسل الموتى، مثل عرض شراء بعض مستلزمات الغسل لاستخدامها في أغراض السحر والشعوذة.

أبو صفاء الخفاجي، مدير مغتسل السيد الشهيد الصدر، يقول: “إن الغاسلات يتلقين مكافآت شهرية ليست كأجر للتغسيل، بل مقابل أعمال التنظيف والاهتمام بالمكان، كما تقدم المؤسسة فحوصات دورية بالتعاون مع صحة النجف الأشرف”.

بعد انتهاء عملها في المغتسل، تعود أم حيدر لممارسة دورها كأم في بيتها، حيث تهتم بشؤون أبنائها وتؤدي واجباتها من طبخ وتنظيف وشراء احتياجاتهم من السوق. وتذكر أم حيدر: “بعض المواقف تبقى عالقة في ذهني، وفي مرات كثيرة تؤثر على نفسيتي وتدخلني في حالة من الكآبة والحزن لشدة الموقف”، وهي تحاول ترك ذكريات عملها خارج باب المنزل، لكن حسب قولها: “هناك أشياء صعبة وأتصور ما حدث في المغتسل يحدث للمقربين مني، وهذا الشيء يعكر مزاجي وينتقل إلى الأسرة”.

غسالات الموتى في السابق لم يطلبن المال من أهل الميت، كان المتعارف عليه أن يمنح خاتم المرأة المتوفاة هدية لمن تقوم بغسل جثتها، وقد دأبت النساء في الماضي على أن يتركن وصية لكل من حولهن بأن “خاتم المرأة الذي تواظب إحداهن على ارتدائه طوال حياتها، من نصيب المرأة التي ستقوم بتغسيل جثتها وتكفينها”.

عدد النساء العاملات في هذه المهنة ليس كبيرًا، وهن يعملن بلا أي إطار قانوني يحميهن، تقول الناشطة في حقوق الإنسان، أريح الشاهر، إنها تدعو إلى ضمهن في نقابة خاصة بهن لضمان حقوقهن القانونية والمادية، وخاصة حق التقاعد.

الشاهر ترى أن الظروف المعيشية الصعبة تجبر النساء على العمل في هذه المهنة التي تعتبر غير مرغوبة اجتماعيًا، رغم أنه يجب أن تكون محل تقدير كبير بسبب ندرتها، وتذكر أن العاملات في هذا المجال كن عرضة للإصابة بفيروس كورونا أثناء انتشاره، وذلك أثناء عملهن.

وتقترح الشاهر “أن يتم تسليط الضوء على هؤلاء النساء، العديد منهن في بعض المحافظات البعيدة، يعملن في تغسيل النساء في أماكن سكنهن بسبب بُعد المسافة عن المغتسلات. هن مهمشات ولم يعترف أحد بهن، ويُعتبر عملهن كواجب يؤديّنَه لأهل المنطقة التي يسكنَّ فيها”.

وكان للنساء المتواجدات في أماكن سكن بعض الغاسلات آراء مختلفة، السيدة فاطمة، ذات الخمسين عامًا، وهي جارة لإحدى الغاسلات، تقول: “هن نساء صاحبات فضل، ولولاهن لبقي الناس في حيرة من أمرهم في تغسيل موتاهم من النساء، لا أمانع من التعامل معهن أو مسك يدهن أو حتى تناول الطعام من يدهن بعد انتهاء عملهن وعودتهن إلى البيت، فهن يمارسن مهنة كغيرها من المهن التي تتعامل مع المرضى والموتى في المستشفيات”.

أما سارة، ذات 28 عامًا، وهي جارة لإحدى الغاسلات، فكان لها رأي آخر: “ليس لدي مشكلة مع مهنة الغسالة لأنها روحانية وإنسانية، لكنني أشعر بالخوف عندما أكون قريبة منها، وتخطر في ذهني صور عن عملها، لهذا أحاول التعامل معها من مسافة بعيدة، وأتجنب تناول الطعام القادم منها أو لمسها لشعور نفسي لا أستطيع تجاوزه”.

بين الحياة والموت، هناك فاصل من سرير بارد من أسمنت، وحوض ماء، وأصوات بين صراخ ودعاء وتراتيل قرآنية، تقضي غاسلات الموتى ساعات عملهن الشاقة، متحديات النبذ الاجتماعي وصعوبة تقبل الناس، من أجل التقرب إلى الله أو كسب قوت أسرهن، ويبقى لغز عملهن أزليًا ما دام الموت موجودًا.

 

رئيس التحرير