أم لا تعرف الاستسلام في أزقة النجف

خطوة/ النجف
في أحد الأزقة الضيقة في مدينة النجف قديمة ولدت أم محمد التي تبلغ 45 عاما لم تكن حياتها سهلة يومًا فقد ترمّلت وهي في الثلاثين من عمرها ولم يبقَ لها في هذه الدنيا إلا ابنها الوحيد محمد
محمد لم يكن مثل باقي أبناء عمره تقول ام محمد“منذ طفولته ظهرت عليه علامات غريبة يصرخ فجأة يضحك بلا سبب يهرب من البيت ويعود متعبًا لا يميز بين الليل والنهار الأطباء قالوا إنه يعاني من اضطراب عقلي شديد وإنه بحاجة إلى رعاية دائمة“
منذ ذلك اليوم تغيرت حياة أم محمد لم يعد لها زوج يساندها ولا إخوة يمدون لها يد العون ولا أقارب يراعونها الجميع ابتعد عنها شيئًا فشيئًا كانوا يخشون محمد يصفونه بـ”المجنون” حتى أطفال الحي صاروا يسخرون منه لكن قلب أمه لم يعرف يومًا الخوف منه ولا فكر بالتخلي عنه كانت أم محمد تقول دائمًا إذا الدنيا كلها خذلته أنا ما أتخلى عنه هو روحي وهو نعمة ربي حتى لو ما حد شافها.
حكاية أمومة لا تهزمها الوحدة ولا قسوة المجتمع
اخت أم محمد تقول “معاناتها منذ سنوات بعيدة حين فقدت زوجها كنا نظن أن المصاب الأكبر قد وقع لكن الأيام كشفت لنا أن صبرها الحقيقي بدأ مع مرض ابنها محمد. لم يكن أحد منا يتوقع أن يكون الأمر بهذه الصعوبة محمد كان مختلفاً وكنا نخاف عليه ونخاف منه أحياناً ليس لأننا قساة بل لأننا لم نكن نعرف كيف نتعامل مع حالته. كثير من الأقارب ابتعدوا بعضهم بحجة الخوف وبعضهم من قلة الحيلة لكن أم محمد بقيت وحدها لم تتخلَّ عن ابنها يوماً رغم كل شيء
كنت أزورهم أحياناً فأجدها جالسة قرب محمد تقرأ عليه القرآن تمسح على رأسه تحتمل نوباته وغضبه وشروده لم أسمعها تشكو بل كانت كلما سألناها عن حالها تقول الحمد لله هو ابني ونعمة من ربي، حتى لو ما أحد شافها رأيت كيف كانت ترعاه في صغره وتحممه وتطعمه وتلبسه بيدها وتتحمل نظرات الناس وكلامهم الجارح
تعلمت من أم محمد أن الأمومة لا تقف عند حدود الصحة أو العافية أو حتى المنطق بل هي حب خالص وتضحية بلا مقابل صبرها صار درساً لنا جميعاً نحن الذين كنا نعتقد أن الحل في الهروب أو الاستسلام. حتى عندما اشتد بها المرض والكبر بقيت تحتضن محمد وتدافع عنه أمام الجميع أم محمد ليست مجرد قريبة بالنسبة لي، بل هي رمز للصبر والحب الذي لا ينتهي وأثبتت أن الأمومة أعظم من كل الظروف والعقبات“
ليس مجنونًا بل ابن أم عظيمة
أحمد يسكن بالقرب من منزل محمد يقول“عشت في نفس الزقاق الذي كبرت فيه عائلة أم محمد منذ صغري كنت أرى محمد مختلفًا عن بقية أولاد الحي. في البداية كنا نحن الأطفال نخاف من صراخه المفاجئ أو ضحكاته غير المفهومة وكثيرًا ما كنا نغادر المكان إذا اقترب منا. بصراحة كنا أطفالاً ولم نفهم حالته بل كنا نردد ما يقوله الكبار عنه “مجنون” أو حتى نسخر منه أحيانًا لكن مع مرور الوقت بدأت أرى الأمور بشكل مختلف خصوصًا حين كبرت وفهمت معنى المعاناة.
تعلمت من أم محمد دروسًا في الصبر والتسامح فهمت أن الأمومة ليست مجرد شعور، بل اختيار يومي للتضحية، حتى لو كان المجتمع كله يقف ضدك اليوم، حين أرى محمد لا أراه “مجنونًا” بل أراه ابن أم عظيمة علمتنا جميعًا أن الحب لا يعرف حدودًا وأن الصبر يصنع معجزات صغيرة في قلوب البشر“
بين همس الحي مشهد في السوق يغيّر حكم الناس
إيمان جارة أم محمد“منذ أكثر من عشرين سنة كنت أسمع صراخ محمد في الليالي وأخاف مثل بقية الجيران، لكن شيئاً ما في قلب أم محمد كان مختلفاً لم أرَ يوماً امرأة بهذا القدر من الصبر والحنان على الرغم من دموعها التي كانت تخفيها عنا، لم تشتكِ مرة واحدة كثير من الناس في الحي كانوا يتهامسون ويسألون ليش ما توديه لمكان خاص؟ ليش تتعب روحها وحدها؟ لكنها كانت ترد بدمعة حارّة وتقول هو مو غريب حتى أوديه هو ولدي الوحيد. إذا أنا ما احتضنته منو يحتضنه.
مرت السنوات و قصة أم محمد حديث كل بيت في الحي رغم الفقر والتعب، لم نرها يوماً إلا مبتسمة، حتى وهي تسير في السوق بصعوبة كان محمد يمسك بيدها ويقودها بحنان نادر كثير من الناس لم يفهموا مواقفها، لكننا رأينا في صبرها قوة لا توصف“
أم محمد علمتنا معنى الحب الحقيقي كانت تقول الله ابتلاني بي حتى يختبر صبري، وأنا أحمده كل يوم، لأن هذا الولد يخليني أعرف معنى الحب الحقيقي في لحظة شيخوختها، حين أصبحت هي التي تحتاج لمن يرعاها، كان محمد، رغم مرضه، هو الذي يقودها بحنان تلك اللحظة علمتنا جميعاً أن الحب والصبر لا يضيعان، وأن الوفاء يمكن أن يوجد حتى في قلوب يعجز الطب عن فهمها. صارت أم محمد قدوة لكل أم التي لا تتخلى ولا تعرف اليأس أم محمد واجهت عزلة اجتماعية ونظرة المجتمع القاسية لكنها لم تستسلم.